سورة آل عمران - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي {سَيَغْلِبُونَ وَيُحْشَرون} بالياء فيهما، والباقون بالتاء المنقطة من فوق فيهما، فمن قرأ بالياء المنقطة من تحت، فالمعنى: بلغهم أنهم سيغلبون، ويدل على صحة الياء قوله تعالى: {قُل لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [الجاثية: 14] و{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} [النور: 30] ولم يقل غضوا، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة، ويدل على حسن التاء قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب} [آل عمران: 81] والفرق بين القراءتين من حيث المعنى أن القراءة بالتاء أمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم، والقراءة بالياء أمر بأن يحكي لهم والله أعلم.
المسألة الثانية: ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر وقدم المدينة، جمع يهود في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً، فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفراً من قريش لا يعرفون القتال، لو قاتلتنا لعرفت، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الرواية الثانية: أن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر، قالوا: والله هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة، ونعته وأنه لا ترد له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا فلما كان يوم أُحد ونكب أصحابه قالوا: ليس هذا هو ذاك، وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة: أن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم الله تعالى أنهم يموتون على كفرهم، وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم.
المسألة الثالثة: احتج من قال بتكليف ما لا يطاق بهذه الآية، فقال: إن الله تعالى أخبر عن تلك الفرقة من الكفار أنهم يحشرون إلى جهنم، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب هذا الخبر كذباً وذلك محال، ومستلزم المحال محال، فكان الإيمان والطاعة محالاً منهم، وقد أمروا به، فقد أمروا بالمحال وبما لا يطاق، وتمام تقريره قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].
المسألة الرابعة: قوله: {سَتُغْلَبُونَ} إخبار عن أمر يحصل في المستقبل، وقد وقع مخبره على موافقته، فكان هذا إخباراً عن الغيب وهو معجز، ونظيره قوله تعالى: {غُلِبَتِ الروم * فِي أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 2، 3] الآية، ونظيره في حق عيسى عليه السلام {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49].
المسأُلة الخامسة: دلّت الآية على حصول البعث في القيامة، وحصول الحشر والنشر، وأن مرد الكافرين إلى النار.
ثم قال: {وَبِئْسَ المهاد} وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال: {بِئْسَ المهاد} والمهاد: الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش، قال الله تعالى: {والأرض فرشناها فَنِعْمَ الماهدون} [الذاريات: 48] فلما ذكر الله تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة، قال الله تعالى: {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا الله منها بفضله.


{قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: لم يقل: قد كانت لكم آية، بل قال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} وفيه وجهان:
الأول: أنه محمول على المعنى، والمراد: قد كان لكم إتيان هذا آية.
والثاني: قال الفرّاء: إنما ذكر للفصل الواقع بينهما، وهو قوله: {لَكُمْ}.
المسألة الثانية: وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} نزلت في اليهود، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فالله تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم، فقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ} يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن الله تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد الله ونصره، ومن كان كذلك فإنه يكون غالباً لجميع الخصوم، سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة، فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} الآية، فهذا هو الكلام في وجه النظم.
المسألة الثالثة: {الفئة} الجماعة، وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ومشركوا مكة روي أن المشركين يوم بدر كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وقادوا مائة فرس، وكانت معهم من الإبل سبعمائة بعير، وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وهم مائة نفر، وكان في الرجال دروع سوى ذلك، وكان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بين كل أربعة منهم بعير، ومعهم من الدروع ستة، ومن الخيل فرسان، ولا شك أن في غلبة المسلمين للكفار على هذه الصفة آية بينة ومعجزة قاهرة.
واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوهاً الأول: أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور، منها: قل العدد، ومنها: أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا، ومنها قلة السلاح والفرس، ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها: كثرة العدد، ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب، ومنها كثرة سلاحهم وخيلهم، ومنها أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة، والمقاتلة في الأزمنة الماضية، وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة، ولما كان ذلك خارجاً عن العادة كان معجزاً.
والوجه الثاني: في كون هذه الواقعة آية أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان، وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً.
والوجه الثالث: في بيان كون هذه الواقعة آية ما ذكره تعالى بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين} والأصح في تفسير هذه الآية أن الرائين هم المشركون والمرئيين هم المؤمنون، والمعنى أن المشركين كانوا يرون المؤمنون مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين، أو مثلي عدد المسلمين وهو ستمائة، وذلك معجز.
فإن قيل: تجويز رؤية ما ليس بموجود يفضي إلى السفسطة.
قلنا: نحمل الرؤية على الظن والحسبان، وذلك لأن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنهم في غاية الكثرة، وإما أن نقول إن الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرين والجواب الأول أقرب، لأن الكلام مقتصر على الفئتين ولم يدخل فيهما قصة الملائكة.
والوجه الرابع: في بيان كون هذه القصة آية، قال الحسن: إن الله تعالى أمد رسوله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة بخمسة آلاف من الملائكة لأنه قال: {فاستجاب لَكُمْ أنّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ} [الأنفال: 9] وقال: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملائكة} [آل عمران: 125] والألف مع الأربعة آلاف: خمسة آلاف من الملائكة وكان سيماهم هو أنه كان على أذناب خيولهم ونواصيها صوف أبيض، وهو المراد بقوله: {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء} والله أعلم.
ثم قال الله تعالى: {فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: القراءة المشهورة {فِئَةٌ} بالرفع، وكذا قوله: {وأخرى كَافِرَةٌ} وقرئ {فِئَةٌ فَقَاتِلْ وأخرى كَافِرَةٌ} بالجر على البدل من فئتين، وقرئ بالنصب إما على الاختصاص، أو على الحال من الضمير في التقتا، قال الواحدي رحمه الله: والرفع هو الوجه لأن المعنى إحداهما تقاتل في سبيل الله فهو رفع على استئناف الكلام.
المسألة الثانية: المراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله هم المسلمون، لأنهم قاتلوا لنصرة دين الله.
وقوله: {وأخرى كَافِرَةٌ} المراد بها كفار قريش.
ثم قال تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ نافع وأبان عن عاصم {تَرَوْنَهُمْ} بالتاء المنقطة من فوق، والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود، والمعنى ترون أيها اليهود المسلمين مثل ما كانوا، أو مثلي الفئة الكافرة، أو تكون الآية خطاباً مع مشركي قريش والمعنى: ترون يا مشركي قريش المسلمون مثلي فئتكم الكافرة، ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب، وهو قوله: {فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} فقوله: {يَرَوْنَهُمْ} يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين.
المسألة الثانية: إعلم أنه قد تقدم في هذه الآية ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله: {يرونهم مثليهم} يحتمل أن يكون الراؤن هم الفئة الكافرة، والمرئيون هم الفئة المسلمة، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان، وأيضاً فقوله: {مّثْلَيْهِمْ} يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئين فإذن هذه الآية تحتمل وجوهاً أربعة الأول: أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين.
والاحتمال الثاني: أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين، والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم.
فإن قيل: هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال {وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44].
فالجواب: أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين، فقللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم، فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا معلوبين، ثم إن تقليلهم في أول الأمر، وتكثيرهم في آخر الأمر، أبلغ في القدرة وإظهار الآية.
والاحتمال الثالث: أن الرائين هم المسلمون، والمرئيين هم المشركون، فالمسلمون رأوا المشركين مثلى المسلمين ستمائة وأزيد، والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال الله تعالى: {إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 66].
فإن قيل: كيف يرونهم مثليهم رأي العين، وكانوا ثلاثة أمثالهم؟.
الجواب: أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم، وذلك لأنه تعالى قال: {إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم، وإزالة للخوف عن صدورهم.
والاحتمال الرابع: أن الرائين هم المسلمون، وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد، لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين، والآية تنافي ذلك، وفي الآية احتمال خامس، وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود، فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة.
فإن قيل: كيف رأوهم مثليهم فقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقد سبق الجواب عنه.
بقي من مباحث هذا الموضع أمران:
البحث الأول: أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً، والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئياً أما الأول: فهو محال عقلاً، لأن المعدوم لا يرى، فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي، وأما الثاني: فهو جائز عند أصحابنا، لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزاً لا واجباً، وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات، فلم يبعد أن يقال: إنه حصل ذلك المعجز، وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد، فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه:
أحدها: أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام، فلا جرم يرى البعض دون البعض.
وثانيها: لعلّه يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعاً عن إدراك البعض.
وثالثها: يجوز أن يقال: إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعاً عن إدراك ثلث العسكر، وكل ذلك محتمل.
البحث الثاني: اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون، وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل: إن كون المشرك رائياً أولى، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول، فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلاً، وأبعدهما مفعولاً أولى من العكس، وأقرب المذكورين هو قوله: {وأخرى كَافِرَةٌ} والثاني: أن مقدمة الآية وهو قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطاباً مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركاً الثالث: أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية الكفار، حيث قال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه، أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة الكافر والله أعلم.
واحتج من قال: الراؤن هم المسلمون، وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال، ولو كان الراؤن هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال، وكان ذلك أولى والله أعلم.
ثم قال: {رَأْىَ العين} يقال: رأيته رأياً ورؤية، ورأيت في المنام رؤيا حسنة، فالرؤية مختص بالمنام، ويقول: هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري، فقوله: {رَأْىَ العين} يجوز أن ينتصب على المصدر، ويجوز أن يكون ظرفاً للمكان، كما تقول: ترونهم أمامكم، ومثله: هو مني مناط العنق ومزجر الكلب.
ثم قال: {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء} نصر الله المسلمين على وجهين: نصر بالغلبة كنصر يوم بدر، ونصر بالحجة، فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال: هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة، وبالعاقبة الحميدة، والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره، لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً} والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر، ومنه العبارة وهي كلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب، وعبارة الرؤيا من ذلك، لأنها تعبير لها، وقوله: {لأُوْلِى الأبصار} أي لأولي العقول، كما يقال: لفلان بصر بهذا الأمر، أي علم ومعرفة، والله أعلم.


{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم قولان الأول: ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفاً من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه، وأيضاً روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة، وأن الآخرة خير وأبقى.
القول الثاني: وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِى الأبصار} ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بيّن أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية، واللذات الدنيوية، ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها، وتبقى تبعاتها، ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} [آل عمران: 15] ثم بيّن طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن قوله: {زُيّنَ لِلنَّاسِ} من الذي زين ذلك؟ أما أصحابنا فقولهم فيه ظاهر، وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو الله تعالى وأيضاً قالوا: لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان، فإن كان ذلك شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان، وإن كان من الله تعالى، وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله: {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا، وهذا الكلام ظاهر جداً.
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال:
القول الأول: حكي عن الحسن أنه قال: الشيطان زين لهم، وكان يحلف على ذلك بالله، واحتج القاضي لهم بوجوه:
أحدها: أنه تعالى أطلق حب الشهوات، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان.
وثانيها: أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه، ومنتهى مقصوده، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة.
وثالثها: قوله تعالى: {ذلك متاع الحياة الدنيا} ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزيناً له.
ورابعها: قوله بعد هذه الآية {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} [آل عمران: 15] والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه.
والقول الثاني: قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها: أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده، وإباحتها للعبيد تزيين لها، فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى، وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من اللذة، ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها.
وثانيها: أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة، والله تعالى قد ندب إليها، فكان مزيناً لها، وإنما قلنا: إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه:
الأول: أن يتصدق بها والثاني: أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث: أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سبباً لاشتغال العبد بالشكر العظيم، ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول: شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعراً هذا معناه والرابع: أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثواباً، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس: قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطيبات مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} [الكهف: 7] وقال: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وقال في سورة البقرة {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} [البقرة: 22] وقال: {كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حلالا طَيّباً} [البقرة: 168] وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى، ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد {زُيّنَ لِلنَّاسِ} على تسمية الفاعل.
والقول الثالث: وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل، وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من الله تعالى، وكل ما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم، وكان من حقه أن يذكره ويبيّن أن التزيين فيه من الله تعالى، أو من الشيطان.
المسألة الثالثة: قوله: {حُبُّ الشهوات} فيه أبحاث ثلاثة:
البحث الأول: أن الشهوات هاهنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال، كما يقال للمقدور قدرة، وللمرجو رجاء وللمعلوم علم، وهذه استعارة مشهورة في اللغة، يقال: هذه شهوة فلان، أي مشتهاه، قال صاحب الكشاف: وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها والثانية: أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها.
البحث الثاني: قال المتكلمون: دلّت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه، والشهوة من فعل الله تعالى، والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات.
البحث الثالث: قال الحكماء: الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب، وأما من أحب شيئاً وأحب إن يحبه فذاك هو كمال المحبة، فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة، كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام {إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} [ص: 32] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير، وإن كان ذلك في جانب الشر، فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله: {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها: أنه يشتهي أنواع المشتهيات.
وثانيها: أنه يحب شهوته لها.
وثالثها: أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة، ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة، ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى، ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس، وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس، والعقل أيضاً يدل عليه، وهو أن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان: جسماني وروحاني، والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر، وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة، ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية، فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة، وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر، ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة، فلهذا السبب عم الله هذا الحكم فقال: {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات}.
وأما قوله تعالى: {مِنَ النساء والبنين} ففيه بحثان:
البحث الأول: {مِنْ} في قوله: {مِنَ النساء والبنين} كما في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضاً معنى هذه الآية: زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة.
البحث الثاني: إعلم أنه تعالى عدد هاهنا من المشتهيات أموراً سبعة أولها: النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى: {خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة.
المرتبة الثانية: حب الولد: ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى، لا جرم خصه الله تعالى بالذكر، ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك.
واعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة، فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات، والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل.
المرتبة الثالثة والرابعة: {القناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق، فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب، وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون: إنه وزن لا يحد، واعلم أن هذا هو الصحيح، ومن الناس من حاول تحديده، وفيه روايات: فروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القنطار اثنا عشر ألف أوقية».
وروى أنس عنه أيضاً أن القنطار ألف دينار، وروى أُبي بن كعب أنه عليه السلام قال: «القنطار ألف ومائتا أوقية» وقال ابن عباس: القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم، وهو مقدار الدية، وبه قال الحسن، وقال الكلبي: القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة، وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير مقصودة بحجة ألبتة.
البحث الثاني: {المقنطرة} منفعلة من القنطار، وهو للتأكيد، كقولهم: ألف مؤلفة، وبدرة مبدرة، وإبل مؤبلة، ودراهم مدرهمة، وقال الكلبي: القناطير ثلاثة، والمقنطرة المضاعفة، فكان المجموع ستة.
البحث الثالث: الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء، وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب، لا جرم كانا محبوبين.
المسألة الخامسة: {الخيل المسومة} قال الواحدي: الخيل جمع لا واحد له من لفظه، كالقوم والنساء والرهط، وسميت الأفراس خيلاً لخيلائها في مشيها، وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا، وسمي الخيال خيالا، والتخيل تخيلا، لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة، والأخيل الشقراق، لأنه يتخيل تارة أخضر، وتارة أحمر، واختلفوا في معنى {المسومة} على ثلاثة أقوال الأول: أنها الراعية، يقال: أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي، كما يقال: أقمت الشيء وقومته، وأجدته وجودته، وأنمته ونومته، والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسناً، ومنه قوله تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10].
والقول الثاني: المسومة المعلمة قال أبو مسلم الأصفهاني: وهو مأخوذ من السيما بالقصر والسيماء بالمد، ومعناه واحد، وهو الهيئة الحسنة، قال الله تعالى: {سيماهم فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29] ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة، فقال أبو مسلم: المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل، وهي أن تكون الأفراس غراً محجلة، وقال الأصم: إنما هي البلق، وقال قتادة: الشية، وقال المؤرج: الكي، وقول أبي مسلم أحسن لأن الإشارة في هذه الآية إلى شرائف الأموال، وذلك هو أن يكون الفرس أغر محجلا، وأما سائر الوجوه التي ذكروها فإنها لا تفيد شرفاً في الفرس.
القول الثالث: وهو قول مجاهد وعكرمة: أنها الخيل المطهمة الحسان، قال القفال: المطهمة المرأة الجميلة.
المرتبة السادسة: {الأنعام} وهي جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، ولا يقال للجنس الواحد منها: نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها.
المرتبة السابعة: {الحرث} وقد ذكرنا اشتقاقه في قوله: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} [البقرة: 205].
ثم إنه تعالى لما عدد هذه السبعة قال: {ذلك متاع الحياة الدنيا} قال القاضي: ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى الله تعالى، ثم قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه: منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم فيكون مذموماً ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضاً مذموماً، ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة، وذلك لا ممدوح ولا مذموم، ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح.
ثم قال تعالى: {والله عِندَهُ حُسْنُ المأب} اعلم أن المآب في اللغة المرجع، يقال: آب الرجل إياباً وأوبة وأبية ومآبا، قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته، ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن.
فإن قيل: المآب قسما: الجنة وهي في غاية الحسن، والنار وهي خالية عن الحسن، فكيف وصف المآب المطلق بالحسن.
قلنا: المآب المقصود بالذات هو الجنة، فأما النار فهي المقصود بالغرض، لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، كما قال: سبقت رحمتي غضبي، وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8